لازالت في مخيلتي
الى يومنا هذا تلك الصورة الشهيرة و التي حققت أعلى نسب المشاهدة على كل القنوات و
الصحف العالمية في تسعينات القرن الماضي...كيف لي أن أنسى تلك اللقطة للرئيس الأمريكي كلينتون و هو يتلوى من الضحك
حتى الدموع و يتهكم من تعليقات و كلام الرئيس الروسي السابق "بوريس
يلتسن" و هو يهذي و يترنح ثملا أمام كل عدسات العالم و في حالة ميؤوس منها لرجل
مدمن يقود إمبراطورية !
مشهد اختصر و في
لحظات قصيرة حالة الانحطاط و الذل الذي
بلغته إمبراطورية كانت تحكم نصف العالم , دولة كبرى أصبحت في الحضيض فقدت هيبتها و
أصبحت تقدم التنازلات تلو الأخرى وصلت حد
خيانة الوطن , ضربات داخلية و خارجية فجرت و جزأت ما تبقى من الاتحاد السوفياتي
السابق , جمهوريات عديدة أعلنت استقلالها و معسكر شرقي اشتراكي ارتمى في أحضان
الغرب و أعلن عداءه لموسكو و فتح أراضيه قواعدا عسكرية أطلسية ...استعدادا لتوجيه
الضربة القاضية لبلاد القياصرة ...
هكذا كانت روسيا
"بوريس يلتسن" , رئيس كان همه الوحيد زجاجة الفودكا و ثروة عائلته و
ابنته التي أصبحت الآمر الناهي في روسيا , يلتسن كان النقطة الأكثر سوادا في تاريخ
روسيا , و لكن ما سيشفع له و سيحسبه له التاريخ و الأجيال القادمة في بلاده ,
اكتشافه لكفاءة و عبقرية روسية فريدة و حمايته له , الداهية فلاديمير بوتين !
31 ديسمبر 1999 ,
في الوقت الذي كان فيه العالم كله يحتفل و يستقبل الألفية الجديدة , فاجأ الرئيس
يلتسن الروس و العالم بأسره بظهوره على
التلفزة ليعلن عن تنازله عن السلطة للرجل الذي يراه أهلا لقيادة روسيا الجديدة ,
فلاديمير بوتين ...و حسنا فعل !
بوتين , الضابط
السابق في الكاجي بي , الطيار و بطل الجيدو و الفنون القتالية و الشطرنج , كان
بمثابة هدية من السماء , استطاع تغيير روسيا و تمكن من إيقاظ ذلك العملاق
...الثمل !
لن نطيل الحديث
كثيرا عن انجازات هذا الرجل الداهية و الحازم و الذي لا يختلف كثيرا عن قياصرة
روسيا في تسييره ووطنيته المتطرفة و قبضته الحديدية و تحوله الى مارد خطير إذا تعلق الأمر بأمن و مصالح و وحدة بلده .
المتابع لنفسية و
سياسة بوتين سيتأكد من شيء...روسيا لن تتراجع عن موقفها من الأزمة السورية قيد
أنملة , و لن تتنازل عن دعمها لسوريا حتى و إن كلفها ذلك حربا عالمية ثالثة ,
فليست تلك التصريحات و بالونات الاختبار التي تطلقها قنوات الدعاية الإعلامية
الخليجية عن تغيير مرتقب لموقف روسيا و ليست "تهديدات" مشيخة حمد هي
التي ستؤثر على قرارات قيصر روسيا الجديد , بوتين يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف و
هو الضابط السابق في الاستخبارات الروسية الذي يفهم جيدا حجم المؤامرة التي يديرها
الغرب و أمريكا العدو التاريخي لروسيا و بتمويل و دعاية من زبانيتها التاريخيين
أعراب الخليج و شيوخهم الوهابيين ...
بالنسبة لروسيا,
موقفها من الأزمة السورية و دعمها للجمهورية السورية ليس فقط مبنيا على حسابات
نفوذ و مصالح اقتصادية و سياسية و عسكرية عادية مع حليف تاريخي...هي مسألة حياة أو
موت! , سقوط سوريا في يد أعراب الخليج و الامبريالية
العالمية , سيكون بمثابة أخر مسمار سيدق في نعش الإمبراطورية الروسية الناهضة , و
لكن لماذا ؟؟
لنعد قليلا إلى
الوراء ...و نتذكر سنوات كذبة "الجهاد المقدس" التي تم التلاعب بها على
عقول الملايين من المسلمين و تصوير أن ما يحدث في أفغانستان هو جهاد في سبيل
الله ! ...تم تجنيد
الآلاف من شباب المسلمين و بدعم مالي و إعلامي خرافي من إمارات الخليج كالعادة و بفتاوى
شيوخ الفكر الوهابي و برعاية "شيوخ " المخابرات الأمريكية و الهدف
الحقيقي كان كالعادة ...ضرب روسيا و إضعافها فقط ! ...لا جهاد و هم
يحزنون .
نجحوا في مبتغاهم
و صدقتهم الشعوب كما صدقت قصص "الكرامات" عن دبابات روسية تم تفجيرها بحفنة
من تراب و عن ملائكة تنزل لتحارب إلى جانب المجاهدين "و المخابرات الأمريكية
طبعا " ... استطاعوا إعطاء ضربة موجعة للجيش السوفيتي ببركة
"ملائكة" المخابرات الأمريكية و كانت هزيمة أفغانستان بداية النهاية
للاتحاد السوفيتي , لم يكن في الحقيقة جهادا و لكن آخر فصل من فصول الحرب الباردة .
و تتوالى بعدها
الضربات على روسيا و بؤر "الجهاد الوهابي" التي لا تظهر إلا في مناطق
لها علاقة بروسيا , في الشيشان و داغستان و انغوشيا, في البوسنة و كوسوفو و غيرها
...
انحصار النفوذ الروسي تواصل طوال فترة التسعينات و حتى بداية الألفية
الجديدة , فبعد أفغانستان , فقد الروس مجموعة كبيرة من جمهورياتهم السوفيتية , ثم
و بنفس الطريقة "الجهادية"
الوهابية الامبريالية المتصهينة , تم تفجير يوغسلافيا الاتحادية الحليف
الاستراتيجي لروسيا التي كانت مثالا في التعايش بين الأديان بدعم مجموعات إرهابية
في حرب البوسنة (التي
أصبحت اليوم من أكبر حلفاء إسرائيل بفضل "الجهاد المقدس) , ثم تركيع الجزائر
أكبر حليف لروسيا في إفريقيا , ثم كوسوفو ...و كلها تحت لواء الجهاد ! و
نجحوا مرة أخرى و انهزمت روسيا .
و من الصدف
العجيبة أن كل بؤر "الجهاد" لا تظهر إلا في المناطق الصديقة و الحليفة
لروسيا و لم تمس و لو بشعرة حلفاء أمريكا ...؟؟ و لكن , إلى متى ؟
و تجد روسيا نفسها محاصرة من كل الجهات و تشعر
بأن الضربة القاضية باتت قريبة جدا , خاصة بعد ظهور مشروع الدرع الصاروخية
الأمريكية في تركيا و بتسهيلات من أردوغان
دركي أمريكا في المنطقة .
نظرية الدومينو
تسير و بدقة و لم تبقى إلا قطعة واحدة لينهار البيت الروسي...سقوط الجمهورية
السورية !
و... ليظهر
"الجهاد المقدس" مرة أخرى في سوريا , نفس السيناريو الذي حصل في أفغانستان
مع اختلاف واحد , "الكرامات" الوهابية هذه المرة أصبحت عبارة عن جياد
بيضاء تنقذ المتظاهرين من "هولاكو" العصر بشار , عوضا عن الملائكة
الخضراء الأفغانية ! أما الباقي فلا تغيير
, فتاوى تصنعها أجهزة السي آي آي و شيوخها الأطلسيين , مرتزقة دمويون من كل بلاد الإسلام
و دعم إعلامي و مالي بملايير البترول الخليجي بالإضافة إلى العبقرية المخابراتية
الأمريكية خلف الكواليس .
الروس حفظوا الدرس
جيدا و رئيسهم اسمه الآن بوتين و ليس يلتسن , و هم يعرفون أن سقوط سوريا في يد
الوهابيين حلفاء الامبريالية و خدم أمريكا , ستكون نتائجه كارثية على الأمن القومي
الروسي و وحدة أراضيه , فكما قلنا أنها أصبحت الآن مسألة حياة أو موت لروسيا ,
مصير البلدين أصبح مشتركا و لا بد من العمل سويا لصد آخر هجمة التي ليس لها إلا
هدفين اثنين , حماية أمن إسرائيل و إسقاط الدب الروسي .
ليس في كل مرة تسلم
الجرة ...لم يسبق للروس طوال تاريخهم أن استعملوا حق الفيتو لثلاث مرات متتالية و
في فترة زمنية قصيرة مثلما فعلوه مع سوريا بالإضافة إلى إجهاض عشرات مشاريع
القوانين في مجلس الأمن ضد سوريا ,
البوارج الحربية الروسية أصبحت دائمة التواجد على السواحل السورية و بوتين يدعو في
أحد خطاباته الجيش ليكون على استعداد لكل الاحتمالات , دون أن ننسى ذكر التهديدات
المتكررة التي يطلقها جينيرالات روسيا للغرب من مغبة ارتكاب أي حماقة في بلاد
الشام .
ما نسمعه من حين الى آخر عن تغير وشيك للموقف الروسي ليس إلا ذرا للرماد و
عبارة عن حرب نفسية موجهة أكثر للاستهلاك الإعلامي و مهدئات لحالة الهلع و التخبط
التي بدأت تظهر في صفوف
"الجيش الحر" و جماعات القاعدة
و معارضة اسطنبول التي لم تعد تدري ماذا تفعل ...
روسيا أخلطت الأوراق كلها
و هي من توزعها الآن و هي من يقرر قواعد اللعبة .
روسيا لن تتراجع و
لن تتنازل , بل على العكس هي الآن انتقلت إلى مرحلة الهجوم المضاد دبلوماسيا , أول
أهدافه القضاء على ما يسمى "مجموعة أصدقاء سوريا" و اقتراح البديل بإنشاء
مجموعة الاتصال التي لاقت موافقة كل الدول الكبرى و تم تحديد أول موعد لها نهاية
شهر جوان 2012 , روسيا استطاعت بهذه المبادرة أن تفرض تواجد حليفتها إيران كطرف
مهم , و استطاعت تقزيم دور قطر و السعودية و تركيا و جعله هامشيا من الآن فصاعدا .
كل المؤشرات تدل
على رضوخ القوى الغربية للشروط الروسية , قوى صار همها الوحيد إيجاد مخرج يحفظ ماء
وجهها من المأزق السوري , حتى و إن اضطرت إلى إعادة حساباتها و تحالفاتها في
المنطقة و التضحية بحلفائها من مشيخات الخليج الفارسي .
كخلاصة , يمكننا
أن نختصر النظرة الروسية للأزمة في قاعدتين ستبني عليهما إستراتيجيتها في المنطقة و في
العالم ككل
أولا - كل ما كان يسمى "جهادا" هدفه الأوحد و
الحقيقي ضرب روسيا و الدول الصاعدة من
العالم الثالث حتى لا تتحول إلى حليف لروسيا و الصين , كما حدث مع دول مجموعة
البريكس كالبرازيل و جنوب إفريقيا و التي أصبحت الآن دولا تقدمية في طليعة القوى
المناهضة للاستعمار و الهيمنة , لم ينتبهوا للبرازيل و جنوب إفريقيا و هي
تصعد و إلا لخلقوا لها "جهادا"
ليحطموها...كيف نفسر ظهور جماعات وهابية تعيث فسادا في بلد مثل نيجيريا ؟؟ السبب
بسيط , نيجيريا قوة ديمغرافية و اقتصادية و بترولية صاعدة , يجب ضربها قبل أن
تتحول إلى برازيل أو جنوب إفريقيا أخرى و تتحالف مع روسيا و الصين .
ثانيا – أي تنازل في أي صراع جديد و خاصة في سوريا و في إيران
و في كل مناطق التماس مع حلفاء أمريكا
سيكون بمثابة الانتحار للأمة الروسية .
لن تنفع الضغوطات
الغربية و لا ملايير أعراب الخليج في تغيير موقف بوتين كما ينتظر البعض , لأن ذلك
سيكون في رأي الشعب الروسي بمثابة الخيانة الكبرى للوطن .
و نقول لكل من
لازال يحلم بتغيير الموقف الروسي في الأزمة السورية...صح النوم !
بقلم : نايت الصغير عبد الرزاق
(كل الحقوق محفوظة)
حديث مطابق تماما لما يحدث في الميدان السياسي.... لكن ما يشغل بالي دائما ...كيف كانت طبيعة السياسة المنتهجة في ازمة ليبيا ...كيف كانت علاقة نظام القدافي مع الغريمين (روسيا - و م ا) ...كل ما رايته تجاوب تام في الموقف .
RépondreSupprimer