ظاهرة تنظيم داعش و الجدل الكبير الذي أعقب ظهوره المفاجئ
و انتشاره السريع و في ظرف قياسي في مناطق واسعة بين العراق و سوريا تعادل مساحة
العديد من الدول الأوروبية مجتمعة , و الانهيار العجيب للجيش العراقي ( أو ما تبقى
منه ) في محافظة الموصل و محافظات أخرى أمام ضربات هذا التنظيم الذي لم يكن يسمع
عنه أحد قبل أقل من سنتين فقط , ظاهرة جعلت الكثير من الاختصاصيين و الملايين
من العامة يتساءلون عن سر هذا الصعود و هذه القوة الجبارة التي لازالت تواصل في
تحقيق شعارها الشهير( باقية و تتمدد ) على الأرض رغم ضربات التحالف الجوية التي لم
تؤثر فيه , بل على العكس , زادته بقاء و تمددا !
الكثير يتساءلون الآن , من أين جاء هذا التنظيم و أين
كان سابقا و كيف تحول الى (داعش) و من أين تأتيه كل هذه القوة و العتاد و السلاح و
المقاتلين ؟ , تساؤلات يمكن اعتبارها في أغلبها نوع من النفاق و الهروب من الواقع
, خاصة بالنسبة للمجتمعات التي ظهر فيها داعش و اشباهه , شعوب تعودت على تجنّب
الاسئلة الصعبة و المحرجة و حتى و ان تجرأت و تساءلت فهي تخاف أو تتجنب اعطاء الاجوبة
الصحيحة و تفضل كالعادة غرس رؤوسها في الرمال الى أن يظهر بينها (داعش) جديد ,
مفضلة أجوبة سطحية و منافقة من نوع ( داعش لا يمثل الاسلام ) و نظرية المؤامرة
الغربية الصهيونية كالعادة !
الأغلبية
الساحقة من المتسائلين في بلداننا المنكوبة فكريا و عقائديا يعرفون جيدا من أين
جاء الدواعش و اشباههم كما أنهم يعلمون أن هذا التيار و الفكر لم ينزل من السماء
فجأة و بأنه متجذر فكريا و عقائديا عندنا منذ قرون و قرون طويلة , و المتعاطفون و
المعجبون به ينافسون حتى جماهير و محبي كرة القدم في مجتمعاتنا , مئات الآلاف أو
ربما الملايين يسكنهم داعش صغير يشعر حتى و ان لم يعلن ذلك صراحة أن ما يفعله داعش
و اشباهه ( شرعي) و لكنه و بسبب ذلك الانفصام و المرض و الاختلال النفسي و العقلي
الذي أصاب مجتمعاتنا سيجد لك تلك المبررات الشهيرة عن نظرية (التشويه) و المؤامرة
الغربية الصهيونية و الشيعية و حتى الفضائية ان لزم الأمر.
عن
نظرية المؤامرة :
أكبر مغالطة يلجأ اليها الكثيرون للهروب من الاسئلة أو
حتى الأجوبة الصعبة , هي اللجوء مباشرة الى اتهام الآخر المختلف عقاديا بالتآمر
على ( المسلمين) و هي نظرية (داعشية) بامتياز يعتنقها الكثير , و التي ترى في كل من لا يتبع التيار التكفيري
(الداعشي) في رؤيته للإسلام و للغير , فهو حتما (كافر) و متآمر يجوز قتله و سبيه و
ابادته , و كما يعرف الجميع , فالأسطوانة الأكثر انتشارا هي اتهام الغرب و
الأمريكان والشيعة و كل من لا يعتنق الفكر التكفيري و الذين يسمونهم عادة
بالعلمانيين بمحاولة تشويه صورة الاسلام , رغم أنهم لم يتركوا لكل هؤلاء (الكفار)
ما يشوهونه , فقد قاموا هم بالمهمة و (الواجب) و أكثر و ليسوا بحاجة لمن (يساعدهم)
, و لن يسعنا المجال هنا لنستعرض كل (الكوارث) التي جعلت من الاسلام أضحوكة و رمزا
للدموية و الارهاب و الجهل و التخلف , يكفي فقط أن نعود لتصريحات و (اجتهادات)
رموزهم , لنجد أمورا يندى لها جبين ابليس شخصيا !
الانتشار الرهيب للفكر التكفيري في صورته الوهابية و
الاخوانية في مجتمعاتنا هو الذي انتج لنا داعشا اليوم و أنتج أشباهه سابقا و لن
يتوقف عن انتاج أمثاله مستقبلا , داعش هو انتاج محلي خالص و جذوره عميقة جدا تمتد
لقرون و قرون طويلة و لسنا بحاجة لأمريكا او الغرب في هذا المجال فقد تحولت
مجتمعاتنا الى مصانع لإنتاج تلك الكائنات التي تأكل لحوم البشر و تقطع الرؤوس و هي
تكبّر و تحلم بالحور ! و كفانا نفاقا و كذبا على أنفسنا قبل غيرنا ,
النسخة الحالية التكفيرية السلفية الاخوانية من الاسلام هي السبب الأول و الرئيسي
لانتشار و ظهور داعش , و الكارثة أن أغلب المسلمين مقتنعون أن هاته النسخة المشوهة
هي الاسلام المحمدي الحقيقي بسبب الدعم المالي الخرافي و الاعلامي الذي تكفلت به
السعودية لنشر و احياء هذا التيار طوال ما يقرب من قرن من الزمن , تكفل بعمليات
غسيل مخ لأغلب من يعتنقون الدين الاسلامي الذين تحولوا الى وهابيين و دواعش ناشطين
أو نائمين دون أن يشعروا !
استغباء آخر , يلجأ اليه البعض لتبرير ما لا يُبرر ,
فبالاضافة لاتهام الغرب و أمريكا , يخرجون علينا بالشمّاعة الايرانية الشيعية
لتبرير جرائم الفكر الداعشي في العراق و سوريا , و لكن كيف لهم أن يفسروا لنا
جرائم أسلاف الدواعش في الجزائر في تسعينات القرن الماضي و في مصر و الصومال و
نيجيريا مثلا, رغم أنه لا وجود للشيعة في هذه الدول …
كفانا
استحمارا لأنفسنا و للعامة !
أمور عجيبة اخرى يمكننا ملاحظتها حتى على الشبكات
الاجتماعية و في النقاشات الشعبية تُظهر مدى تغلغل الفكر الداعشي حتى عند العامة
ممن نعتبرهم من ( المعتدلين) , فيمكنك
مثلا أن تراهم يقيمون الدنيا و لا يقعدونها في قضية حجاب فتاة في فرنسا أو افطار مجموعة من الشباب في
الجزائر أو اغنية او رواية يرون أنها (فاسقة) , ولكنهم لا يرون أي مشكلة في آلاف
من الأزيديين و هم يتعرضون للابادة و تسبى نساؤهم , و حتى ممارسات الدواعش في مسلمين
مثلهم من قطع رؤوس و فتح أسواق للجواري و منع دراسة علوم (الكفار) , لا يعلقون
عليها لأن اغلبهم يعتقد (بشرعيتها) ... انها قمّة التناقض و الفكر الداعشي (المعتدل)
, في انتظار أن يجد فرصته ليعبّر عن (شعوره) المكبوت و يتحول الى داعشي تطبيقي بعد
أن كان نظريا فقط.... من هنا جاءتكم داعش !
طريقة سيطرة داعش العجيبة و السهلة على محافظة الموصل في
العراق و قبلها بعض المناطق في سوريا , توضح لنا هذا الأمر بجلاء , كان ذلك بسبب
(المخزون) الداعشي الشعبي الكبير الذي فتح لهم الأبواب و هو يكبّر لهذا (الفتح)
الكبير لإعلاء راية الاسلام كما يعتقدون بالإضافة
الى الخيانات التي حدثت في الأجهزة الأمنية و العسكرية من قيادات اصابها
(الاندعاش) , انهم الخلايا النائمة و المُعجبون و (المعتدلون) ... داعش
يمكنها الآن أن (تفتح) أي بلد في المنطقة , فقط باستعمال قواعدها و مخزوناتها
الشعبية !
أتذكر أيضا تلك الطريقة (السريالية) التي ظهرت بها حركة
طالبان فجأة في أفغانستان و كأنها نزلت من
السماء و كيف سيطرت على مناطق واسعة في لمح البصر و بدأت تستغل في ( المخزون
الشعبي) من (المؤمنين) بنفس الطريقة التي
تم بها استغلال هذا (المخزون) في حرب أمريكا ضد الاتحاد السوفياتي في افغانستان
باسم (الجهاد) , نفس سيناريو داعش ... يبدو أن مجتمعاتنا لا تتعظ !
لنعد الآن الى نظرية المؤامرة , ان كان هناك من مؤامرة
فهي في استغلال الغرب و امريكا لهذا الفكر الذي تحول الى كارثة قاتلة علينا و ليس
في صناعته , فكما قلنا سابقا , مجتمعاتنا حققت اكتفاءها الذاتي صناعة الفكر
التكفيري الداعشي و قد صارت تصدر فائضها
الى باقي المجتمعات , كما أن مجتمعات أخرى تحترم نفسها , تستغل هذه الثغرة القاتلة
عندنا لتحقيق مصالحها في كل مرة , و هذا أمر عادي في صراعات الدول على النفوذ و
المصالح الاقتصادية و السياسية خاصة اذا وجدت أمامها (مخزونات) مثل التي نمتلكها
في مجتمعاتنا .
من أين
جاءت داعش ؟ :
بالإضافة الى مصدرها العقائدي و الفكري الذي تحدثنا عنه
أعلاه , يتساءل البعض أيضا من اين جاء كل هذا العدد الهائل من المقاتلين المدربين
على أعلى مستوى و المسلحين تسليحا جيدا يتعدى الكثير من جيوش المنطقة , باختصار ,
داعش (زهرة) من زهور (الربيع) العربي التي تفتحت , أكثر من ثلاث سنوات من التسليح و
التدريب تحت مسمّى (الثورة) في سوريا , أثبتت الوقائع ما كنّا قد تحدثنا عنه في
الكثير من تحليلاتنا السابقة , لا وجود لما يسمّى الجيش الحر أو (الثوار) في سوريا
, و انما مجموعة من الارهابيين المرتزقة المتعددي الجنسيات تم تدريبهم و تسليحهم
باسم الدين كالعادة , للقيام بمهمات قذرة في المنطقة لتخريب سوريا و العراق و
باستغلال ذلك (الداعشي) الصغير الذي يسكن أغلب المسلمين و ينتظر فقط فرصته ليفرج
عن مكبوتاته في القتل و التخريب و السبي و النكاح .
نفس الشيء يحدث الآن في ليبيا بعد (الثورة) , حيث اصبح
لأشباه الدواعش جيوشا و سلاحا فتاكا , و هم الآن يستعدون لمهمتهم القادمة , (فتح)
الجزائر و مصر , و باستغلال (المخزون الشعبي) و المتعاطفين و الخلايا النائمة و من
يدعون أنهم من (المعتدلين) في هذين
البلدين .
الشيء الايجابي الوحيد
ربما منذ اعلان (الخلافة) في العراق و ما تبعها من جرائم و سبي و قطع للرؤوس , أن
اقلية مستنيرة بدأت تظهر و تتساءل ان كان حقا هذا هو الاسلام و عن ضرورة اعادة
النظر في الكثير من الأمور في التراث الاسلامي الذي طغى عليه الفكر التكفيري
المقيت و العودة الى انسانية الاسلام , و
قد بدأ هذا التيار يعرف انتشارا و ككل فكرة جديدة مجددة ستعرف مقاومة في بدايتها و
لكنها ستنتهي بفرض نفسها عاجلا أم آجلا, العبرة في الكيف و ليس الكم و الطريق
لازال طويلا و صعبا لأن العامة تجد صعوبة في سماع من يحدث عقولها و تميل لمن يدغدغ غرائزها البدائية و لكن الى متى ؟
بقلم : نايت الصغير عبد الرزاق
( جميع الحقوق محفوظة )
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.