نايت الصغير عبد الرزاق
لن أستفيض
كثيرا في سرد أهم مراحل حياتي التي كانت في أغلبها مقرفة و لا حدث قبل أن أتحوّل الى "شيخ" , مراحل طويلة
كنت فيها "عتروسا" و بالضبط منذ أن اختار لي أحد اصدقاء طفولتي لقب
"العتروس" (و له اسبابه المنطقية في ذلك !) , لقب بقي
ملازما لي الى غاية اليوم الذي حدثت فيه المعجزة و الانقلاب الذي غير حياتي , كان
يوما خير من مليون يوم , تنزلت فيه كل خيرات الأرض عليّ بعده , كان ذلك اليوم
المشهود و الذي لن أنساه طوال ما حييت , عندما سمعت زميل لي "عتروس" مثلي
و في وسط جمع من "العتاريس" و هو يناديني : " يا شيخنا
الفاضل , ما رأيك في ..." , لا أتذكر شيئا عن سؤاله , ولكن ما كان يهمني ,
ذلك اللقب الجديد الذي سأحمله من الآن فصاعدا و منافعه التي لا تُعد و لا تُحصى ,
عرفت حينها أن حياتي ستتغير جذريا و أن "تعبي" لم يذهب هباء , فقد انتهى
زمن "التعترس" الى غير رجعة و جاء زمن "المشيخة" ...
لم تمر الا
بضعة ايام بعدها حتى انتشر لقبي الجديد انتشار النار في الهشيم , لا أكذب عليكم ان
قلت لكم أنني كنت أستمتع كثيرا و أنا أرى "عتارس" سُّذّج و "زملاء"
سابقين و هم يصدقون و ينادونني " يا شيخ" , لن أحدثكم كثيرا عن
"المنافع" العظيمة التي بدأت تتهاطل عليّ منذ ذلك الوقت , منافع مادية و
اجتماعية و نكاحية و "بما يرضي الله"...
كنت دائما
أتساءل لماذا كانوا يسمونني سابقا بالعتروس و لما كل هذا التجني بحق فصيلة التيوس
, فهو حيوان وديع و يستحيل عليه أن يتحول الى "شيخ" بين عشية و ضحاها و
أنا متأكد أنه لو نطق لأعلن اعتراضه على التسمية , فهو على الأقل يعرف قدره و يعرف
أن فصيلة التيوس الحقيقية لا يمكنها أن تكون بنفاق أو بسذاجة "عتاريس"
البشر , و أنا الذي عشت طويلا كعتروس بشري , أتقدم من على هذا المنبر باعتذاراتي
لفصيلة الماعز و التيوس لتشبيهنا لعتاريسنا بها !
يتساءل البعض
, كيف استطعت أن "أتطور" من فصيلة "عتروس" بشري الى درجة
"شيخ" ضربة واحدة !؟
...سأكون صريحا ,
أنا شخصيا لا زلت محتارا , كنت "عتروسا" و لكنني لست بسذاجة
"العتاريس" الذين يستمعون الي و يستفتونني الآن في أمور دينهم و دنياهم
و يلقبونني بالشيخ , حتى و ان كنت أقوم بتكفير نظرية التطور الداروينية في كل "الدروس"
و "المحاضرات" التي صرت ألقيها دوريا على عتاريسي الوديعين , الا أنني و
في أعماقي صرت أرى فيها الكثير من الصحة كلما نظرت الى نفسي في المرآة !...و أيضا و أنا
أرى قطعان العتاريس التي تستمع الى "العلوم" التي ألقيها عليها و
أفواهها مفتوحة من الدهشة !
عليكم أيضاأن
تعرفوا أن عملية "التطور" من "عتروس" الى "شيخ"
تخضع لقوانين الانتخاب الطبيعي و التأقلم مع المحيط , فليس كل عتروس يتطور الى
"شيخ" , فأغلب "العتاريس" يبقون على حالهم الى أن يتوفاهم
الله وهم "عتاريس" فرحون , و لكن الأخطر هو ذلك النوع من
"الشيوخ" الذين اضطروا أن يعودوا الى حياتهم السابقة في عالم
"التعترس" و خسروا كل المنافع , بسبب اخطاء في عدم الخضوع لقانون
"ما يطلبه المستمعون" في الدروس و الفتاوي , و لم يستطيعوا أن يصلوا الى
أعلى درجات العبوس و التكفير لكل ما هو على وجه الأرض من كائنات , حتى
"العتاريس" منها ان استلزم الأمر , فكما يقول المثل " الخبزة مرة
" و خاصة لمن ذاق حلاوة المشيخة و عرف ما يعنيه أن تكون عتروسا سابقا .
لن ابوح لكم بكل
أسرار التحول و التطور , و لكن سأكتفي فقط بذكر الخطوط العريضة , أهم قاعدة هي أنه
يستحيل أن نقبل بتحول كل "عتروس" الى "شيخ" , فطائفة
"العتاريس" هي سبب وجودنا و ثرائنا و شهرتنا و فلولاهم لأصبحنا لاشيء و
لعدنا لقرف "التعترس" , تصوروا معي للحظة مجتمعاتنا بدون طائفة
"العتاريس" ؟ كيف "سنشتغل" نحن ؟ و جميعكم يعرف أن افضلنا لن
يجد لنفسه مكانه و لو في مهنة زبال أو بواب بدون جمهور "العتاريس" التي
تصفق لنا و تحمينا ...
لا اعرف لماذا
كانوا يسمونني "العتروس" , هل بسبب "الرائحة" أم بسبب الغباء
المستفحل الذي كنت أعانيه , كنت دائما آخر الصف و لم أتمكن من تجاوز المرحلة
الابتدائية الا بفضل رحمة الله , ثم تخرجت بعدها بقليل بشهادة " يُوجه نحو
الحياة المهنية" و التي كانت نعمة بالنسبة لي , الفراغ جعلني أتعرف على
الكثير من "العتاريس" مثلي , كنا نقضي أوقاتنا في "حلقات"
الأكل و دروس "العترسة" و التكفير و القيلولة !
ثم تعرفت على
"شيخ" سبق له أن مر بمرحلة "العترسة" , تكرم عليّ و علمني
بعضا من "علوم" غسيل الموتى و تكفينهم , فاصبحت دائم الحضور في الجنازات
و "خدماتي" صارت مطلوبة جدا , ثم قررت أن ألبس "الزي الرسمي"
فوضعت طرة و شماغا على راسي و تعلمت بعض الكلمات من كتب الاولين أرددها دائما على
الحضور , و شيئا فشيئا صرت اعلّم الناس أمور موتهم و أحذرهم من "البدع"
ليضمنوا دخول موتاهم للجنة , و تحولت بعدها الى "منظم" لمواكب الجنازات
أمنعهم من التكبير و أعلمهم متى يهرولون و متى يخفضون "الريتم" ...الى
أن جاء ذلك اليوم المشهود الذي حدثتكم عنه , و أنا منهمك في تنظيم
"الهرولة" و منع التكبير و الدعاء في الجنازة , سمعت مُناد يناديني و
يقول ..." يا شيخنا أريد أن اسألك في امر ..." , فكانت تلك الكلمة التي
غيرت حياتي !
منذ ذلك اليوم
, صعدت في السُّلّم و تحولت الى "شيخ" و ودعت طائفة
"العتاريس" الى غير رجعة و اصبحت شيخا لهم أعلمهم أمور دينهم و دنياهم ,
و لم أعد "أُنظّم" الجنازات , فهي غير "مفيدة" , هناك ما هو
أكثر فائدة دينا ...و دنيا !
أنا الذي لا
زلت لا اعرف حتى جدول الضرب , صرت اليوم متحكما في جداول الجمع لكل متاع الدنيا
"و بما يرضي الله" , و كلما مررت على أصدقاء الطفولة من الذين أطلقوا
عليّ لقب "العتروس" , أتوقف أمامهم بسيارتي الالمانية الفخمة و من تحت
عود سواكي أهديهم ضحكة صفراء و اقول ..." رفقا بالعتاريس , فنحن بحاجة اليهم !"
*العتروس هو
التيس باللهجة الجزائرية
... يُتبع
( كل الحقوق محفوظة)
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.