خبر استقالة بابا
الكنيسة الكاثوليكية ليس كغيره من الأخبار, حادثة فريدة و نادرة الوقوع و لم يشهد
العصر الحديث إلى حد اليوم أي حالة مشابهة , فآخر استقالة لبابا تعود الى ما لا
يقل عن ست قرون كاملة كانت فيها أوروبا بأكملها تعيش فتنا و تخلفا اجتماعيا و
ثقافيا و علميا و صراعات مذهبية , أسباب مختلفة تماما عن تلك التي دفعت اليوم
بالبابا بينيدكتوس إلى الاستقالة , فالبابا الحالي حتى و ان حاول أن يغطي استقالته
بأسباب صحية , إلا أن العام و الخاص يعرفون تمام المعرفة الأسباب الحقيقية التي
دفعت به إلى ترك منصب كرسي البابوية و هو في كامل قواه العقلية و غير مكره (
الاستقالة السابقة في القرن الخامس عشر انتهت بدق رأس البابا بمسمار !)
لن نتحدث و نحلل
أسباب الاستقالة فقد تكفل بذلك الاختصاصيون و جرائد و قنوات الفضائح و لكن الذي
استوقفني في هذه الحالة هي تلك الهوة
السحيقة التي ما فتأت تزداد و تتسع بين مجتمعاتنا و المجتمعات الغربية و المتطورة
و في كل المجالات و التي لم تعد علمية و فكرية فقط و لكنها أخلاقية بالأساس , بين
مجتمعات متخلفة تخصصت في "إنتاج" دروس الأخلاق و الحديث عنها
صباح مساء عبر الفضائيات و التجارة بها عبر أقراص مضغوطة و مطويات ملونة , و بين مجتمعات
أخرى تحترم نفسها و تطبق تلك الأخلاق في معاملاتها اليومية من أبسط مواطن الى
...البابا !
كيف نفسر استقالة
رأس أعلى هيئة دينية في العالم بسبب أخطاء فردية لم يرتكبها هو و لا حول و لا قوة
له فيها و إنما كانت بفعل أشخاص يتبعون
المؤسسة الكنسية فقط , أليست هذه هي أعلى درجات احترام الذات و الغير ؟ ألا يجعلنا
هذا نتساءل عن حالنا و ما وصلنا إليه من انحطاط أخلاقي في مجتمعاتنا اللاهوتية
المستبدة بين "رجال دين " و
سياسيين يتاجرون بدروس الأخلاق و هم أبعد
من يمارسها ؟
نحن نعيش أزمة
أخلاق حادة و مزمنة , ليس بالمفهوم الديني فحسب و لكن بمفهوم إنساني شامل , نحن
نفقد إنسانيتنا شيئا فشيئا لنستبدلها بنسخة مزيفة بدوية استبدادية دموية منافقة من ديننا الحنيف روجوا لها على أنها الإسلام و الإسلام
منها براء , لن نعود إلى إنسانيتنا إلا بعد أن نتخلص من هذه النسخة الباهتة
الظلامية , أول خطوة في الطريق الحضاري الصحيح هو العودة إلى إنسانية الإنسان
المسلم .
شيء آخر يميز
المجتمعات الغربية المتطورة , تلك الحركية الدائمة التي تعيشها و تصحيحها لأخطائها
و تأقلمها مع الأحداث و العصر بصورة دائمة و محاربتها للجمود الفكري و نظرتها
الدائمة الى المستقبل بالإضافة إلى تجديد مفهومها و نظرياتها بعد كل مرحلة مهمة من
تاريخها , في الوقت الذي لازال البعض عندنا يدعو إلى "العودة" إلى
"السلف" حتى في المأكل و الملبس و يحارب كل حركية اجتماعية و تجديد
بدعوى أن كل شيء موجود و بالتفصيل الممل في كتب الأولين !
تلك الحركية هي من
جعلت من مواطن زنجي يصل إلى رئاسة أعظم دولة عرفها التاريخ , فهل كان لعاقل أمريكي
أن يتصور قبل خمسين سنة فقط أن أمريكا سيحكمها رجل أسود ؟ هذه الحركية و التحول
الايجابي في المجتمعات المُحترَمة هي من جعلت أمريكيي القرن 21 يختلفون اختلافا
فكريا جوهريا عن أمريكيي القرن 19 و بداية القرن 20 و كل ذلك كان نتيجة نضالات
فكرية و سياسية مجددة و تقدمية استطاعت أن تقنع الأمريكيين و تجعلهم يسيرون نحو
المستقبل...فأين نحن من كل هذا ؟
لا زلت أذكر حادثة
رئيس الحكومة الكوري الذي استقال هو و حكومته بسبب سقوط جسر صغير في منطقة نائية ,
احتراما لشعبه على خطأ لا ناقة له فيه و لا جمل , و الأمثلة كثيرة جدا في كل
البلاد المتحضرة , و أقارنها بما يحدث عندنا من حكام و زبانيتهم يرون في الأوطان
غنيمة , و كهنة و "دعاة" يمارسون السرقة الفكرية على الملأ و الفواحش بين
كل محاضرتين , هناك حتى من حكمت عليهم المحاكم بالجرم المشهود و لكنهم استطاعوا أن
ينفذوا من جرائمهم و عادوا لممارسة "مهنتهم" في الدعوة إلى مكارم الأخلاق !
مفهومنا للأخلاق
مختلف و متخلف عن المجتمعات المتحضرة , نحن لازلنا نراه مظهرا أو لباسا أو حفظا
لبعض الآيات نستظهرها أمام الناس لنريهم مدى "سمو" أخلاقنا , في الوقت
الذي يراه غيرنا في معاملات يومية و احترام للنفس و للغير فقط .
نحن نعيش يوميا
"أخلاق" حكامنا و رجال ديننا , يدفعوننا إلى الجمود و يمنعون و يحرمون أي
حركية أو تجديد , أصابونا بالتخمة بدروسهم
عن الأخلاق و لا أحد فيهم تجرأ و احترم نفسه و غيره و فعل ما فعله البابا عوض
ممارسة سياسة " الماما" على الشعوب و فرض وصايتهم و "أخلاقهم"
على مجتمعات يرون فيها قاصرة و لا يمكنها
العيش إلا تحت رعايتهم ...
بقلم :نايت الصغير عبد الرزاق
(جميع الحقوق محفوظة)
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.